عماد مغنيّة: إني جزء من مؤسسة تدرس خطواتها بهدوء
صفحة 1 من اصل 1
عماد مغنيّة: إني جزء من مؤسسة تدرس خطواتها بهدوء
عماد مغنيّة: إني جزء من مؤسسة تدرس خطواتها بهدوء
14/02/2008 «لقد رأينا الموت في عيونهم، لقد رأينا الهزيمة أيضاً، وعندما أطلقنا الدفعة الأولى من الصواريخ على حيفا، قلت لمن كان إلى جانبي: خسرت إسرائيل الحرب». كان عماد مغنيّة يعاني إرهاقاً جسدياً وبعض المشكلات الصحية بعد أسابيع على انتهاء حرب تموز عام 2006.
في شقة عادية المدخل والمظهر والمكان، كان الرجل القوي في حزب الله يرسم صورة الاستعداد لمواجهة رغبة العدو في الانتقام من المقاومة عندما يشعر بأنه بات جاهزاً. وكان قليل الكلام كعادته، وكثير السؤال عن أحوال البلد الخارج من معركة طاحنة، «فيها بطولة وتضحية وفيها خزي وعار». لكنه كان يعرف برنامجه بدقة، ويصعب على أحد استنتاج ما يدور في خلده وما يتخيّله افتراضاً ممكن التحول إلى حقيقة.
الحاج، الشبح، رضوان، الثعلب أو اللغز. أسماء وصفات كثيرة أُطلقت على عماد مغنية، الرجل الذي لم يكن ممكناً أن يخرج إلى العلن إلا شهيداً. لم يكن ممكناً التقاط الإشارات حوله إلا في دوائر ضيّقة للغاية، ما يجعل وصول العدو إليه أمراً كبيراً ومخيفاً، ويجعل النيل منه ضربة أليمة، قاسية، لئيمة وهي الأشد قسوة في تاريخ حزب الله. و«ضربة المعلّم» التي قام بها الإسرائيليّون بدت شديدة الاحتراف، وتنال احترام عماد مغنية لو كان على قيد الحياة، كما كانت ستترك فيه غضباً لا انفعالاً، وهو ما ميّز الرجل المختفي دوماً بين الناس يبحث برويّة عن أفضل السبل لـ«إزالة إسرائيل». كانت هذه العبارة لازمة في ذهنه، وكان يسخر من الذين يرون في قناعته حيالها سذاجة أو طفولية. لكنه لم يكن يكتفي برفع الشعار. وعندما قررت إسرائيل أنه العدو الأول لها، كانت تشعر به ناشطاً من دون تعب على إنهاكها، وكانت تشعر به وبظلّه، لا في لبنان وحسب، بل في الضفة الغربية والقدس وفي غزة وقلب فلسطين، وكانت أعينها في الخارج تخشاه متعقّباً لها لا متخفّياً عنها.
«أعرف أن الأميركيين ينسجون الحكايات من حولي، ويرمون علي بالمسؤوليّة عن كثير من الأعمال التي تحصل ضدهم في أكثر من مكان من العالم، وللحظات يصوّرون الوضع كأنّي أملك مفتاح الكون. كان صعباً عليهم الاقتناع بأنني جزء من مؤسسة، تدرس خطواتها بهدوء، تصبر وتفكّر وتخطّط لتحقيق ما يجب تحقيقه، ولا تقوم بذلك انفعالاً ولا غضباً آنياً، وهم يعرفون جيداً أنّ جدول أعمالنا محصور ببند واحد اسمه التخلص من الاحتلال، ودعم المقاومة الفلسطينية، لأن فلسطين سوف تظل مسؤولية الجميع ولو خرج من أهلها من يقول عكس ذلك».
لم يكن «الحاج» ظلّ السيد حسن نصر الله كما يفترض كثيرون، ولا هو الرجل الثاني في الحزب كما يفترض آخرون، ولا هو القابض على روح المقاومة كما يتحدث منافسون، بل هو الرجل القوي الذي تدرّج في المواقع القيادية ربطاً بإنجازاته الكبيرة: تفكيراً وتخطيطاً واستعداداً وتجهيزاً وتنفيذاً حين يكون عليه الحضور. كان ناجحاً في ترك أثره خلفه حيث يرغب، أو بصمته وتوقيعه إذا لزم الأمر، وكان صعباً على عدوّه ضبطه متلبّساً. كان على إسرائيل أن تُخرج من رأسها فكرة ضبطه بالجرم المشهود. وكلّ التحريض الذي قام ضدّه لدى كل أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم، لم يكن كافياً للوصول إلى الرجل الذي صال وجال في كل الأمكنة حاملاً «صندوق المفاجآت» يغذيه ما أمكنه خبرةً وعدّةً وعديداً لليوم الكبير!
لم يكن قد مرّ على الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 أيّام قليلة، حين كان الحاج رضوان يرسم خط النار الجديد مع العدو. صار هواء فلسطين يسكنه صبح مساء. كان معجباً إلى حدّ الافتتان بتجربة الجيش الإسرائيلي. تعلّم منه الكثير، وكان في كل موقع، يطرح إشكالية تتحوّل إلى برنامج عمل: أين هذه الثغرة في ما يتّخذه العدو من إجراءات؟ من يحدّدها تكن له الجائزة الكبرى، واعداً بأن يكون مُسهماً في عمل يقوده إلى نصر أو استشهاد. صعب على من هو خارج هذه المجموعة فهم ما يحصل مع هؤلاء الذين استشهد بين أيديهم المئات من المقاتلين، وصعب على العدو فهم القدرة الخارقة على التمييز بين الحق في الدفاع والرغبة في الانتقام، وصعب حتى على حلفاء مغنية في كل المقاومات العربية، فهم سر السكينة التي غلفته وهو يدعو إلى الروية وبذل ما يحتاج إليه العمل من جهد، لا تقيّده بمهل زمنية ولا بسقوف وهمية. وحين يصدر القرار، يكون أكثر من يثابر على تحقيقه بأكبر دقة ممكنة، لا يعوزه صبر لأن ينتظر صيده أشهراً طويلة، ولا تعوزه الحجة حتى يفكر بوسائل أخرى إذا ما فشلت تجربة أو اكتشفت خطة. ولا تعوزه ذاكرة وتجربة كل الذين تعاقبوا على هذا الدرب. وهو الذي كانت تفاجئه يومياً كفاءة وشجاعة المقاتلين من حوله: «من منا كان يتصوّر هذه القدرة الهائلة عند قلة من مقاومينا استخدمت ضدهم كل وسائل القتال، لم يبق شيء في جعبة الجيش الإسرائيلي إلا استُخدم، ومع ذلك، لم يخرج هؤلاء من مواقعهم، لم يهربوا ولم يدفنوا سلاحهم في الأرض». لكنه كان أكثر اطمئناناً إلى ما هو آتٍ: «إذا جرّب الإسرائيليون حظّهم معنا مرة جديدة، فسوف يجدون ما لا يخطر لهم في بال ولا في عقل».
كان عماد مغنية مساعداً أساسياً للسيد نصر الله. كان الأخير يحبه ويهوى عقله. أمضى الرجلان معاً أياماً طويلة على الثغور: «ليس أحب إلى السيد من تمضية وقته مع المجاهدين، يكره كل شيء اسمه إجراءات، كان يحسدني على حريتي في الحركة والتنقل بين المواقع والمكاتب من دون مرافقين وإجراءات، وكان يضحك عندما نلتقي بمجاهدين لا يعرفونني وينتظرون إشارة مسؤولهم ليسمحوا لي بالمرور».
ذات يوم، في حزيران عام 2006، كان لنا صديق تربطه بالمقاومة علاقة عاطفية من نوع خاص. طلب من الحاج رضوان أن يأخذه في جولة على المواقع الأمامية. هو لم يكن يعرف الرجل. كانت بينهما صلة وصل لا يعرف الصديق هويتها الحقيقية أيضاً. وعندما حدّد له التاريخ، طلب إليه الانتقال بسيارته إلى الجنوب، وفي نقطة كان في انتظاره شاب صغير، لا تبدو على ملامحه علامات المقاومين، طلب منه أن يترك قيادة السيارة، وسار به دقائق قبل أن يتوقف قرب بائع خضار، وفتح باب السيارة لرجل في العقد الخامس من عمره. كان رجلاً عادياً لا يشبه ما في الذاكرة من صور عن الثوار الكبار، ولا في الذاكرة صورة عنه. ركب الرجل، وبعد أقل من نصف ساعة كان الثلاثة في سيارة أخرى تقلهم إلى موقع عسكري. مرت دقائق قليلة اختفى فيها الرجل ليعود بهيئة قائد أركان، صافحه من جديد، عرّفه بنفسه: الحاج رضوان!
وهكذا، انكشف السر. ظهر الساحر من خلف ستارته. مضى في طريق يعرفها منذ صغره، لكنه ترك خلفه عبئاً ثقيلاً على رفيق له اسمه حسن نصر الله...
إبراهيم الأمين - جريدة الاخبار
14/02/2008 «لقد رأينا الموت في عيونهم، لقد رأينا الهزيمة أيضاً، وعندما أطلقنا الدفعة الأولى من الصواريخ على حيفا، قلت لمن كان إلى جانبي: خسرت إسرائيل الحرب». كان عماد مغنيّة يعاني إرهاقاً جسدياً وبعض المشكلات الصحية بعد أسابيع على انتهاء حرب تموز عام 2006.
في شقة عادية المدخل والمظهر والمكان، كان الرجل القوي في حزب الله يرسم صورة الاستعداد لمواجهة رغبة العدو في الانتقام من المقاومة عندما يشعر بأنه بات جاهزاً. وكان قليل الكلام كعادته، وكثير السؤال عن أحوال البلد الخارج من معركة طاحنة، «فيها بطولة وتضحية وفيها خزي وعار». لكنه كان يعرف برنامجه بدقة، ويصعب على أحد استنتاج ما يدور في خلده وما يتخيّله افتراضاً ممكن التحول إلى حقيقة.
الحاج، الشبح، رضوان، الثعلب أو اللغز. أسماء وصفات كثيرة أُطلقت على عماد مغنية، الرجل الذي لم يكن ممكناً أن يخرج إلى العلن إلا شهيداً. لم يكن ممكناً التقاط الإشارات حوله إلا في دوائر ضيّقة للغاية، ما يجعل وصول العدو إليه أمراً كبيراً ومخيفاً، ويجعل النيل منه ضربة أليمة، قاسية، لئيمة وهي الأشد قسوة في تاريخ حزب الله. و«ضربة المعلّم» التي قام بها الإسرائيليّون بدت شديدة الاحتراف، وتنال احترام عماد مغنية لو كان على قيد الحياة، كما كانت ستترك فيه غضباً لا انفعالاً، وهو ما ميّز الرجل المختفي دوماً بين الناس يبحث برويّة عن أفضل السبل لـ«إزالة إسرائيل». كانت هذه العبارة لازمة في ذهنه، وكان يسخر من الذين يرون في قناعته حيالها سذاجة أو طفولية. لكنه لم يكن يكتفي برفع الشعار. وعندما قررت إسرائيل أنه العدو الأول لها، كانت تشعر به ناشطاً من دون تعب على إنهاكها، وكانت تشعر به وبظلّه، لا في لبنان وحسب، بل في الضفة الغربية والقدس وفي غزة وقلب فلسطين، وكانت أعينها في الخارج تخشاه متعقّباً لها لا متخفّياً عنها.
«أعرف أن الأميركيين ينسجون الحكايات من حولي، ويرمون علي بالمسؤوليّة عن كثير من الأعمال التي تحصل ضدهم في أكثر من مكان من العالم، وللحظات يصوّرون الوضع كأنّي أملك مفتاح الكون. كان صعباً عليهم الاقتناع بأنني جزء من مؤسسة، تدرس خطواتها بهدوء، تصبر وتفكّر وتخطّط لتحقيق ما يجب تحقيقه، ولا تقوم بذلك انفعالاً ولا غضباً آنياً، وهم يعرفون جيداً أنّ جدول أعمالنا محصور ببند واحد اسمه التخلص من الاحتلال، ودعم المقاومة الفلسطينية، لأن فلسطين سوف تظل مسؤولية الجميع ولو خرج من أهلها من يقول عكس ذلك».
لم يكن «الحاج» ظلّ السيد حسن نصر الله كما يفترض كثيرون، ولا هو الرجل الثاني في الحزب كما يفترض آخرون، ولا هو القابض على روح المقاومة كما يتحدث منافسون، بل هو الرجل القوي الذي تدرّج في المواقع القيادية ربطاً بإنجازاته الكبيرة: تفكيراً وتخطيطاً واستعداداً وتجهيزاً وتنفيذاً حين يكون عليه الحضور. كان ناجحاً في ترك أثره خلفه حيث يرغب، أو بصمته وتوقيعه إذا لزم الأمر، وكان صعباً على عدوّه ضبطه متلبّساً. كان على إسرائيل أن تُخرج من رأسها فكرة ضبطه بالجرم المشهود. وكلّ التحريض الذي قام ضدّه لدى كل أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم، لم يكن كافياً للوصول إلى الرجل الذي صال وجال في كل الأمكنة حاملاً «صندوق المفاجآت» يغذيه ما أمكنه خبرةً وعدّةً وعديداً لليوم الكبير!
لم يكن قد مرّ على الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 أيّام قليلة، حين كان الحاج رضوان يرسم خط النار الجديد مع العدو. صار هواء فلسطين يسكنه صبح مساء. كان معجباً إلى حدّ الافتتان بتجربة الجيش الإسرائيلي. تعلّم منه الكثير، وكان في كل موقع، يطرح إشكالية تتحوّل إلى برنامج عمل: أين هذه الثغرة في ما يتّخذه العدو من إجراءات؟ من يحدّدها تكن له الجائزة الكبرى، واعداً بأن يكون مُسهماً في عمل يقوده إلى نصر أو استشهاد. صعب على من هو خارج هذه المجموعة فهم ما يحصل مع هؤلاء الذين استشهد بين أيديهم المئات من المقاتلين، وصعب على العدو فهم القدرة الخارقة على التمييز بين الحق في الدفاع والرغبة في الانتقام، وصعب حتى على حلفاء مغنية في كل المقاومات العربية، فهم سر السكينة التي غلفته وهو يدعو إلى الروية وبذل ما يحتاج إليه العمل من جهد، لا تقيّده بمهل زمنية ولا بسقوف وهمية. وحين يصدر القرار، يكون أكثر من يثابر على تحقيقه بأكبر دقة ممكنة، لا يعوزه صبر لأن ينتظر صيده أشهراً طويلة، ولا تعوزه الحجة حتى يفكر بوسائل أخرى إذا ما فشلت تجربة أو اكتشفت خطة. ولا تعوزه ذاكرة وتجربة كل الذين تعاقبوا على هذا الدرب. وهو الذي كانت تفاجئه يومياً كفاءة وشجاعة المقاتلين من حوله: «من منا كان يتصوّر هذه القدرة الهائلة عند قلة من مقاومينا استخدمت ضدهم كل وسائل القتال، لم يبق شيء في جعبة الجيش الإسرائيلي إلا استُخدم، ومع ذلك، لم يخرج هؤلاء من مواقعهم، لم يهربوا ولم يدفنوا سلاحهم في الأرض». لكنه كان أكثر اطمئناناً إلى ما هو آتٍ: «إذا جرّب الإسرائيليون حظّهم معنا مرة جديدة، فسوف يجدون ما لا يخطر لهم في بال ولا في عقل».
كان عماد مغنية مساعداً أساسياً للسيد نصر الله. كان الأخير يحبه ويهوى عقله. أمضى الرجلان معاً أياماً طويلة على الثغور: «ليس أحب إلى السيد من تمضية وقته مع المجاهدين، يكره كل شيء اسمه إجراءات، كان يحسدني على حريتي في الحركة والتنقل بين المواقع والمكاتب من دون مرافقين وإجراءات، وكان يضحك عندما نلتقي بمجاهدين لا يعرفونني وينتظرون إشارة مسؤولهم ليسمحوا لي بالمرور».
ذات يوم، في حزيران عام 2006، كان لنا صديق تربطه بالمقاومة علاقة عاطفية من نوع خاص. طلب من الحاج رضوان أن يأخذه في جولة على المواقع الأمامية. هو لم يكن يعرف الرجل. كانت بينهما صلة وصل لا يعرف الصديق هويتها الحقيقية أيضاً. وعندما حدّد له التاريخ، طلب إليه الانتقال بسيارته إلى الجنوب، وفي نقطة كان في انتظاره شاب صغير، لا تبدو على ملامحه علامات المقاومين، طلب منه أن يترك قيادة السيارة، وسار به دقائق قبل أن يتوقف قرب بائع خضار، وفتح باب السيارة لرجل في العقد الخامس من عمره. كان رجلاً عادياً لا يشبه ما في الذاكرة من صور عن الثوار الكبار، ولا في الذاكرة صورة عنه. ركب الرجل، وبعد أقل من نصف ساعة كان الثلاثة في سيارة أخرى تقلهم إلى موقع عسكري. مرت دقائق قليلة اختفى فيها الرجل ليعود بهيئة قائد أركان، صافحه من جديد، عرّفه بنفسه: الحاج رضوان!
وهكذا، انكشف السر. ظهر الساحر من خلف ستارته. مضى في طريق يعرفها منذ صغره، لكنه ترك خلفه عبئاً ثقيلاً على رفيق له اسمه حسن نصر الله...
إبراهيم الأمين - جريدة الاخبار
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى